الرؤية الاقتصادية وجدية التنفيذ
جوترند - عام على رؤية التحديث الاقتصادي في الأردن. مجدداً أثارت احتفالية حكومية في البحر الميت الغبار والتساؤلات، ودفعت نخبة من وزراء الاختصاص الذين لم تشملهم حوارات ومشاورات الحكومة إلى واجهة النقاش العلني في إطار طرح ملاحظات منهجية على أمل تنويع الخيارات خارج صندوق الحكومة عندما يتعلق الأمر بسؤال الإجراء والتنفيذ.
الإجراء والتنفيذ مرحلتان في غاية الأهمية وفقاً لخبير اقتصادي بارز له بصمة كبيرة في بناء القطاع العام الأردني في الماضي من وزن الدكتور جواد العناني، الذي طالب على هامش نقاش متكرر مع "القدس العربي” بإعادة التموضع؛ بمعنى الاستثمار في الوقت والذهاب عبر مشوار الإنجاز ومغادرة مرحلة التشخيص.
للعناني وغيره من كبار الاقتصاديين ملاحظات على الحكومة في سياق السعي لتجويد مستوى الأداء والإجراء بسب الفرص التمكينية التي تتيحها، على حد تعبير عضو البرلمان والخبير الاقتصادي الدكتور خير أبو صعليك، وثيقة الرؤية التحديثية في الاقتصاد والسياسة والإدارة العامة. لم تجب الحكومة على السؤال العالق حول سبب تجاهل ملف التحديث السياسي في اجتماع البجر الميت الشهير، الذي حضره نحو 600 شخصية بمناسبة العام الأول على التحديث.
غياب الإجابة
لكن غياب الإجابة لا يبدو أنه محفز للصمت، بل بالعكس؛ لأن مستوى التوافق على الملف الاقتصادي حصراً يفترض أنه دوماً بنسبة مرتفعة جداً، الأمر الذي لم يظهر عملياً حتى اللحظة بعد اجتماع البحر الميت. ثمة ملاحظات توقف عندها الجميع في البحر الميت لوزير الصحة الأسبق ورجل الأعمال الكبير سعيد دروزة.
وثمة ملاحظات برؤية نقدية لها علاقة بالإنجاز وسرعته وكيفيته عقب لقاء البحر الميت، تقدم وتميز بها الوزير الأسبق للشؤون الاقتصادية والمستشار الدكتور يوسف منصور. ما حصل في البحر الميت عند استبعاد خبرات وقطاعات مهمة، يبدو أنه استفز بعض المساحات الاقتصادية. والدكتور منصور حصراً واصل تجلياته في طرح أفكار ومقترحات صريحة ومباشرة بهدف تجويد صناعة عملية الإصلاح وبصيغة نبيلة تنطلق سياسياً من الحرص على الرؤية والغطاء السياسي.
تحدث منصور ظهر أمس الاثنين، بجرأة وبصراحة أيضاً في ندوة خاصة بحضور نوعي نظمها المنتدى الإسلامي العالمي للوسطية، ورد على سؤال مباشر لـ "القدس العربي” تحديداً.
قدر وقرر منصور بأن خللاً ما يحصل في الإجراء والتنفيذ بعد توفير الغطاء والإرادة السياسية التي لا شكوك فيها، معتبراً أن البحث عن هذا الخلل المتمرس والمستمر هو من المفاتيح الأساسية لإطلاق مسار إصلاحي تنفيذي إيجابي مادامت الرؤية نفسها موجودة. في السياق، استعرض الوزير السابق منصور، مثالاً على بطء الإجراءات وعلى ما يحصل أحياناً، فقد صدر ضوء أخضر قبل نحو ربع قرن لإقامة مشروع المدينة الإعلامية.
واستقبل المتحدث نفسه بصفته مسؤولاً في قطاع الاتصالات آنذاك، وفداً من شابين إماراتيين لشرح الفكرة والمضمون، لكن بسب خلافات بين وزيرين في الحكومة وقتها، صغر حجم مشروع طموح، وتأخر التنفيذ لسنوات، فيما التقطت إمارة دبي عبر الشابين المشار إليهما الرسالة، فبنيت مدينة متكاملة للإعلام في الإمارات، وبدأ التنفيذ بعد شهرين فقط.
واحدة من مشكلات إدارة المشاريع التي تحدث عنها منصور بجرأة في إطار الرد على استفسار "القدس العربي” في الندوة نفسها، تلك التي تشير إلى الواقع حيث تتقزم أو تتلاشى أو تصغر مشاريع واقتراحات طموحة، لأن موظفاً أو وزيراً ما في مرحلة ما، يتنافس مع زميل له يريد أن يكون كلاهما البطل؛ ما يعني أهمية تكريس العمل التوافقي والجماعي في إطار مشاريع كان يمكن أن تدر دخلاً، وتلك -برأي منصور- مشكلة تنفيذ وإجراء وليست مشكلة غطاء سياسي.
وقال أيضاً شيئاً مثيراً عن تراجع النمو الاقتصادي في مرحلة سابقة في البلاد بسب مغامرات فريق ما ألحق الأردن بأزمة اقتصادية عالمية، ورغم الخسائر الفادحة قبل أكثر من 15 عاماً هنا لم يحصل تقييم ولا مراجعة، لا بل لم يحاسب أعضاء ذلك الفريق المغامر.
قبل انطلاقه في حديثه الجريء، استبق الوزير منصور نائب رئيس الوزراء الأسبق ومدير الحوار الدكتور محمد الحلايقة بسلسلة من التمهيدات والتوضيحات، مستذكراً ما كان قد وصفه علناً عدة مرات فيما يتعلق بضرورة توفير ميكانيزمات التحول أثناء المسير أو السير باتجاه عكسي أو جديد في مسار الملف الاقتصادي عندما لا تتحقق الأهداف.
وضع الحلايقة في الحوار الذي حضرته وشاركت فيه "القدس العربي” أساساً لنقاشات عقلانية وهادفة ومتزنة وتنويرية لا تقف عند حدود الشكوى والتذمر، بل تساعد في دعم الرؤية التحديثية وتصويب صناعة منتجها، معبراً عن أمله في أن تصغى الحكومات التنفيذية أكثر.
سلسلة مفارقات
في الأثناء، عرض الوزير منصور سلسلة طويلة من المفارقات التي حصلت طوال الوقت، ومن بينها طرح سؤال عام 2023 عن قضية جزئية فنية كانت قد أوصت بها لجنة تتبع وزارة التخطيط عام 1998، والمعنى هنا أن التوصية التي يسأل القوم عن تنفيذها الآن سجلت في محاضر رسمية قبل ربع قرن ولم تنفذ.
في التداعيات نفسها، انتقد منصور التركيز على صناعة الملابس أكثر من غيرها، وأعاد التذكير بمعادلة لا يقبلها العلم اليوم ولا تستقيم مع بعضها، مثل "شعب فقير ودولة غنية”، ما يكشف عن أهمية الاستثمار المحلي والإنتاجية.
واعتبر أن الاقتصاد الأردني صغير، والإنفاق ينبغي أن يتوقف لخدمة الدين ودفع الرواتب فقط، بل ينصرف إلى مسارات ومشاريع إنتاجية، موضحاً بضرورة التمييز في التخطيط والتدبير ما بين أرقام النمو الاقتصادي والتنمية الاقتصادية.
في الخلاصة، بعد الموجة الثانية من تعليقات منصور الجريئة وغيره من الوزراء السابقين، بدا لجميع المراقبين أن ما سمي بورشة عمل البحر الميت قد ألقى الضوء على وجود طبقة من التكنوقراط والاقتصاديين مهمة ومؤثرة خارج برمجة التحديث الاقتصادي الحالي وسياقاته الإجرائية التنفيذية.